قبل ٩ سنوات؛ أي في الصف الأول متوسط عام ٢٠١١، أخبرني مشرف النشاط الطلابي ومشرف الموهوبين بمدرستي الحكومية في إحدى محافظات منطقة القصيم (المذنب)، قائلاً "ليس لك عذر اليوم بعدم توافر ما ترغبه من تعلم برمجة وصناعة روبوت والعبث في ابتكاراتك، اليوم أصبح لدينا برامج للطلبة الموهوبين".
تلك اللحظة كانت الأكثر انتشاءً وإفرازًا للأدرينالين في حياتي، لحظة غمرتني بسيل من المشاعر المُفرحة والمبهجة.. أخيرًا لم يعد دعم المواهب فقط لطلاب "المنطقة الشرقية والرياض"، بل وصلت إلى محافظتي الصغيرة التي يجهلها الكثير.. لقد قُرّت عيني بعد سنوات ابتدائية رتيبة وتقليدية لم تحقق أحلامي المؤجلة.. منذ تلك اللحظة، سجلت في كل برنامج يمكن التسجيل به: اللغة الإنجليزية، الروبوت، دورات الخطابة وتهذيب الذات.. أخيرًا الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي- مسار البحث، وقد كان الأكثر أثرًا في مرحلتي التعليمية.
هاتفت عمي، وهو مهندس يدير إحدى محطات المياه في المنطقة بأن لدي فكرة تتطلب البحث والتنفيذ في المصنع، وافق بدعمه اللامحدود وفورًا بدأنا التنفيذ.. ربحنا المرحلة الأولى وخسرنا الثانية.. ولم يكن هذا عائقاً، فأنا لم أتوقف وأنقص من قدري يوماً.
السنة التي تليها، تواصل معي مركز الموهوبين للبدء ببحث آخر أردت البدء به، سألوني عما أحتاج وأوصلوني بالجامعة للعمل في مختبراتها، وقد كان مدير المركز هو من يأخذني ذهاباً وعودة (١٥٠ كيلومتراً) كل مرة.
عند تحكيم المشاريع، زارني أحد المخترعين الكبار ليثبت نظرته بأن أبحاث الطلاب الصغار، ولو بذلوا فيها ما بذلوا، هي موسومة بالفشل ويجب أن يخبرهم بذلك.. وقد كان بالفعل؛ تأملني وأنا مسهبٌ بالشرح مُعجب بما عملت، ليقطع حديثي ويخبرني: "هذا بحث ناس كبار، مب أنت اللي تسويه ولسه عليك" بنظرة شزرة، وغادر.
كانت لحظة صمت مهيبة، ودمعة في محجري قد ثبتت مكانها لم تغادر. ثوانٍ قليلة ويمسك بيدي مدير المركز وداعمي الأول، تطلّع إليّ قليلاً وقال بنبرة الأب لابنه: "أحمد، إن لم تفز بالمسابقة.. سيكون لك شأن في المستقبل، أنا أعرفك وأراهن عليك". ربحت المركز الأول على المنطقة، ومن ثم جائزة أرامكو الدولية الخاصة، وتعرفت خلال سنوات على نخبة طلاب الوطن (عبر موهبة).
لم تكن العلوم التجريبية هي الحلم الحقيقي، بل كانت وسيلة وفرصتي المتوافرة التي لم تفلت من يدي. مثـلت المملكة في الحوار الوطني، وقفت على المنبر أخطب أمام أمير منطقة القصيم والرياض في مناسبات عدة، كسبت جائزة المناظر القانوني في الجامعة، وجائزة المناظر التابعة لأكاديمية المناظرة على مستوى المملكة أيضاً، دربت الطلاب على الإلقاء وصناعة الحجة بالتعاون مع مؤسسة مسك الخيرية، وقبل سنتين ساهمت في إنشاء منصة وتين، وأدرت التشغيل فيها لتصبح المنصة الوطنية للتبرع بالدم والمركز الأول بجائزة الملك خالد الخيرية.
واليوم أبدأ السنة الأخيرة في تخصص القانون، وقد أشرفت على أنشطة أنديتها التخصصية، أساهم في صناعة طلاب المرحلة الثانوية قيادياً عبر برنامج "قائد"، وأعمل كاتب مستقل لعدد من الشركات الناشئة.
أخيرًا.. هذا فضل الله وكرمه، ومساهمة موهبة ببرامجها الإثرائية بتشكيل هويتي وصناعة شخصيتي وتدريبي على المواجهة وخوض التحديات.. وأن ما تبذله اليوم، سوف تراه غداً.