تلك الأشياء الدقيقة التي قد لا تنتبه لها في طفولتك، قد تكون إشارة قوية لما ستصبح عليه.. وتلك العبارات التي كنت تكتبها وتنساها.. قد تتحقق.. وقد تخطيء يوماً.. ويكون هذا الخطأ بوابتك للنجاح.
نسمع دائماً عبارة "اجعل من حياتك كتاباً يستحق القراءة".. ولازلنا نبحث عن فصول حياتنا تلك التي سنكتبها.. أما هي فحياتها ليست كتاباً بل مكتبة يفخر بها الوطن..! أو بالأصح ثروة علمية اقتصادية..!
هي الدكتورة مها محمد عمر خياط، عالمة متخصصة، وعضو هيئة تدريس في جامعة أم القرى، تعمل الآن كأستاذ زائر في مجموعة هندسة النانو التابعة لجامعة ام آي تي MIT، كما عملت في وقت سابق كباحث متعاون في جامعة كامبريدج وذلك بعد حصولها على الدكتوراه من نفس الجامعة في مجال المواد شبه الموصلة، كما تمت إعارتها للعمل في شركة IBM من قبل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، ولها أربعة اختراعات هامة مسجلة في الولايات المتحدة الأمريكية. حصلت على الميدالية الذهبية من معرض جنيف للمخترعين 2012، كما تم ترشيحها لنيل جائزة لوريال -يونسكو للعالمات في مجال البيئة والطاقة في العالم العربي وأفريقيا. قدمت العديد من أوراق العمل العلمية المتخصصة، إضافة إلى العديد من المحاضرات التثقيفية في مجال البيئة والطاقة الشمسية في محافل عالمية ومتخصصة، دعمَت طالباتها في الجامعة فشاركن بمشروع ابتكاري لمدينة ألعاب تعمل بالطاقة الشمسية!
وهيَ تسعى حالياً إلى تشكيل تعاون محلي -دولي لتأسيس مركز أبحاث بين عدد من الباحثين في الجامعات السعودية في مجالات تقنية متقدمة مثل الخلايا الشمسية والديودات الضوئية، إضافة إلى توظيف الخلايا الشمسية في العديد من صناعة الالكترونيات الدقيقة.
قصة الطفولة الأولى: فكت المحول الكهربائي وصممت أداة كهربية أخرى!
نشأت الدكتورة مها خياط في مكة المكرمة في أسرة تُجِل العلم ويشكل الكتاب جزء أساسي من بناءها، كان مكتب والدها -يرحمه الله- تغطي جدرانه أمهات الكتب الدينية والأدبية والتاريخية، فضلاً على المخطوطات الثمينة، الأمر الذي جعلها تتربى على حب الكتاب وكيف تحافظ عليه وتحترم الآراء المختلفة المتباينة.
وكانت لها قصة شغف بالأجهزة الكهربية، ومتعتها أن تكتشفها بالفك وإعادة التركيب، وكانت أول أداه فككتها هيَ المحول الكهربائي الخاص بلعبتها، حتى أنها صممت بها أداه كهربية أخرى، ثم تطور هذا الشغف حتى أصبحت حريصة على جمع أصغر شيء من كل أداة أو لعبة.. لم تعرف يومها أنها ستكبر على ذلك وستصبح عالمة في مجال النانو والالكترونيات الدقيقة!
حيث درست في مرحلة الدكتوراه المواد شبه الموصلة (المواد الأساسية لتصنيع الالكترونيات المختلفة)، ولاحظت خلال دراستها اختلاف تصرف المادة في مدى النانو ونشرت أبحاث حول هذا الموضوع.
تخصصي الدقيق كان حلمي الأول.. ولم أعلم!
في (أكتوبر 2001) بدأت دراستها للدكتوراه، وكان ذلك متزامناً مع بداية مبادرة النانو الأمريكية والتي تلتها مبادرات أوروبية و آسيوية وغيرها. تقول الدكتورة مها: "بعد سنتين وتسعة أشهر، عدت بشهادة الدكتوراه إلى الوطن، وتفاجأت بكتابات كنت قد كتبتها أول سنة لي في مرحلة البكالوريوس! حيث كنت قد كتبت في مذكرة معمل فيزياء 101 بجوار اسمي "دكتورة في الفيزياء وتصنيع الأدوات الالكترونيةّ الدقيقة!".. وهذا هوَ فعلاً تخصصي الدقيق في الدكتوراه، علماً أني قد نسيت هذا الحلم وهذه العبارة، ولم أكن قد حددت وجهتي عند ابتعاثي ولا حددت التخصص حتى عند بدئي لبرنامج الدكتوراه، وقتها سبحت الله وحمدته وأثنيت عليه كما يليق بجلاله وعظمته، وعلمت أن تلك الأشياء التي نكتبها قد تتحقق يوماً فعلاً " تلك الأشياء التي نكتبها قد تتحقق يوماً فعلاً.
مواقف.. طرائف.. وتحدي
الحياة العظيمة، تكتسب عظمتها من قوة التحديات.. كلما كان التحدي صعباً واجتزناه كلما كان إنجازنا أعظم.. ومع ذلك ثمة أمور ومشاعر وأشخاص ومواقف تجعل من الأحلام الصعبة للشخص ممكنة ومن المسيرة الشاقة أكثر متعة ونجاحاً.
تقول الدكتورة مها خياط بأن دراستها للدكتوراه كمغتربة في جامعة بقوة كامبريدج، وفي تخصص كتخصصها وفي وضع كوضعها زوجة وأم لم يكن سهلاً.. ولكن دعم والداها رحمهما الله، وكل رسائل الحب والدعوات التي كانا يبعثاها لها، وكل الإيمان بالله والثقة به التي علماها إياها ساعدتها كثيراً..
من الممكن للمرأة أن تكون أم لأسرة ناجحة وسعيدة وباحثة ومخترعة في نفس الوقت، إذا حاولت أن توازن بين أدوارها.
أما زوجها فكان الحائط الذي تستند إليه وقت الضغط، وكان الحجة التي برهنت بها لزميلتها وللمجتمع بأن المرأة الأم قادرة على الموازنة بين دراستها وأبحاثها العلمية وبين أسرتها.. حيث قالت: "في مرحلة للدكتوراه أخبرت إحدى زميلاتي الباحثات في معامل كافنديش أن لدي أطفال، وكان مشرفي للدكتوراه يوصف في معامل كافنديش بالشخص الصعب جداً، فأكدت لي بأنني لن أستطيع تحقيق طموحي في كامبريدج وفي وضع كوضعي". وتضيف: "يومها عدت إلى البيت وفكرت في التحويل إلى جامعة أخرى، ولكن زوجي قال لي: بأنه من غير المنطقي أن يسقط الآخرين تجاربهم عليّ، ونصحني بالمتابعة في كامبريدج وأن أعتبر نفسي إنسانة متفرغة تماماً للدراسة وأن لا أقلق تجاه واجباتي الأسرية.. وفعلاً، بفضلٍ من الله، ثم كلمات زوجي ودعمه ناقشت بحثي خلال فترة استثنائية بمقاييس كمبردج.. أتذكر أني ذهبت إلى زميلتي الباحثة بعدها وأخبرتها أن المستحيل تحقق، وأنه من الممكن للمرأة أن تكون أم لأسرة ناجحة وسعيدة وباحثة ومخترعة في نفس الوقت، إذا حاولت أن توازن بين أدوارها.. ذلك لم يكن سهلاً أبداً ولكنه لم يكن مستحيلاً أيضاً.
ما بعد الدكتوراه
تقول الدكتورة مها خياط: "بعد حصولي على الدكتوراه، دعمت مسيرتي البحثية بعد فضل الله مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية من خلال البرامج الصيفية في المراكز البحثية العالمية. ثم تمت إعارة خدماتي للمدينة للمشاركة في أبحاث الطاقة الشمسية التي يشترك فيها مركز تقنية النانو بالمدينة وشركة اي بي ام (الشريك التقني). وكان ذلك بترشيح كريم من سمو نائب المدينة لمراكز البحوث الدكتور تركي بن سعود، الذي كان لسموه بعد الله الفضل في تحقيق إنجازاتي البحثية وبراءات الاختراع في مجال الالكترونيات المرنة والخلايا الشمسية المتقدمة."
الطاقة المستدامة.. الحلم والرؤية والهدف
في الوقت الذي تسعى فيه المملكة مسخرة كل الأدوات لتحقيق الطاقة المستدامة، والوصول إلى مصاف الدول المتقدمة، جعلت الدكتورة مها خياط من أحلامها أن تساهم في تحقيق هذا الحلم وهذه الرؤية، فقامت بالعديد من الأبحاث في مجال الطاقة، والعديد من الاختراعات.
الخطأ الذي جعلني مخترعة!
تعود قصة الاختراع الأول للدكتورة مها خياط عندما كانت في أحد معامل واتسون بنيويورك مع زملائها من الباحثين، وكان عليها أن تقوم بخطوات متتالية لتحضير العينة.. ولأنها أخطأت في أحد الخطوات، فكرت في أن تخترع طريقة تختزل بها عدد من الخطوات التصنيعية لتحقيق تحكم في مكان نمو أسلاك السيلكون النانوية بكفاءة عالية إضافة لعدد من الميزات التقنية، فجاءت فكرتها الأولى.
تشاءموا فتبسمت، وقلت بالتأكيد سيكون يوماً طيباً بإذن الله.. وبالفعل، كان يوماً مميزاً.
في فجر اليوم التالي، ذهبت الدكتورة مها لكافتيريا معامل واتسون، لتناول الافطار وقراءة بعد الأوراق العلمية استعدادا لمتابعة التجارب، فانسكبت قهوتها على الأرض.. حينها قال لها أحدهم سيكون يوم طيباً ليواسيها (حيث أنهم يتشاءمون من انسكاب القهوة في الصباح)، تقول الدكتورة مها: "أذكر أني تبسمت، وقلت بالتأكيد سيكون يوماً طيباً بإذن الله.. وبالفعل، كان يوماً مميزاً حيث أني التقيت بمديري في الكافتيريا وناقشت معه فكرتي فأثنى عليها ووجهني للحصول على براءة اختراع، وجاء اختراعي الأول.
الفرصة حين يقابلها استعداد تتحول إلى قصة ناجحة
حظيت الدكتورة مها بفرصة لتقديم الاختراع في الاجتماع السنوي الرابع في سان هوزيه (كاليفورنيا)، وقتها.. اقترح عليها سمو الأمير الدكتور تركي بن سعود نائب رئيس مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لمراكز البحوث أن توظف الاختراع كمجس، ولأن لديها الاستعداد والطموح الكافي، كان هذا الاقتراح سبباً في اختراعها الثاني.
لا تحتقر أفكارك مهما كانت بسيطة وبدائية
كان يجب على الدكتورة مها خياط الوصول إلى نتائج فيما يتعلق بتطوير كفاءة الخلايا الشمسية المصنعة من أسلاك السيلكون النانوية لتقديمها في الاجتماع الشهري والذي ينظمه نائب رئيس IBM، ولأنها مجهدة من ضغط العمل، فضلاً على أنها متعبة لإصابتها بحساسية القمح، الأمر الذي دعاها لأن تنجز العمل بأبسط الطرق الممكنة، وهذا ما قادها إلى اختراعها الثالث الذي أبهر المختصين في IBM، ولاقى صدى استثنائي وتمكنت من تسجيله في موقع IBM.
ليس ذلك فحسب، بل تقدمت الدكتورة مها خياط بالاختراع للجنة التحكيم في معامل واتسون بنيويورك التي قيمت هذا الاختراع كاختراعين منفصلين؛ الأول- طريقة صناعية جديدة للحصول على شرائح مرنه من المواد شبه الموصلة بالتبريد، والاختراع الثاني يُعنى بالتحكم بسمك الشريحة الشبه موصلة وبدون زيادة سمك الطبقات الضاغطة المكلفة اقتصادياً. كما أنه يقدم طريقة جديدة للحصول على شرائح رقيقة مرنه من المادة عند درجات الحرارة المنخفضة جداً.
اختراعات الدكتورة مها عمر خياط:
الاختراع الأول: القولبة الكيميائية في مدى النانومتر باستخدام العناصر المتأكسدةInventors: Maha Khayyat, Devendra Sadana & Brent Wacaser
يُعنى هذا الاختراع باستخدام التفاعل الكيميائي في مدى النانومتر للعناصر النشطة والمحفزة لنمو الأسلاك النانوية. الأمر الذي يمكننا –بمشيئة الله- في التحكم في مكان نمو السيلكون النانوي واختزال بعض الخطوات المرتبطة بصناعات أشباه الموصلات وبعض التطبيقات الأخرى مثل تكوين أجزاء من المونيوم جاليوم ارسنايد في بلورة الجاليوم ارسنايد اختيارياً.
وتأتي أهمية هذا الاختراع، لإمكانية استخدامه في التطبيقات الصناعية مثل الخلايا الشمسية والأجهزة الالكترونية وقد تم تطبيق هذا الاختراع بالفعل لتطوير ميكروسكوب القوة الذري لدراسة الخلايا الحية.
ويتميز بأنه لا يتطلب إزالة الألمنيوم وذلك لنموه الاختياري، كما أنه لا يتطلب رسم هندسي ضوئي في بعض تطبيقات التقنية الحالية، وبالإمكان تطبيقه في مجالات متعددة مثل إضافة الألمنيوم اختيارياً لأجزاء من شريحة الجاليوم ارسنايد.
الاختراع الثاني: طريقة بمدى انتاجي لتطوير قدرة التمييز لميكروسكوب القوة الالكتروني باستخدام أسلاك السيلكون النانوية المحفزة بالالمنيومInventors: Gey Cohen, Mark Reuter, Brent Wacaser & Maha Khayyat
هو عبارة عن طريقة لتصنيع مسبار لميكروسكوب القوة الذري ذي قوة تمييز عالية، و ذلك بإنماء سلك نانوي وحيد على قمة المسبار الشبه موصلة ذات الشكل الهرمي. يتميز هذا المسبار أنه يمكن التحكم في قطره (من 5 الى 200 نانومتر بعد عملية الترقيق الإضافية) و نسبة حانبية (نسبة الطول للعرض) عالية (اعلى من 100) بدون تناقص يذكر في مساحة مقطع السلك بين قاعدته وقمته والتي لا تتجاوز العشرة في المئة. مسبار ميكروسكوب القوة الذري والمصنع بالطريقة الحالية له قوة فصل جانبية عالية، إضافة إلى إمكانية تصنيعه بطاقة انتاجية.
وتبرز أهميته في إنماء سلك نانوي وحيد على قمة إبرة مسبار ميكروسكوب القوة الالكتروني هو حل مثالي لدراسة الجدر الحانبية للأسطح الخشنة و عمق الأسطح المسننة وزاوية الميلان وارتفاع العتبات والموجودة في بعض الأسطح.
الاختراع الثالث: طريقة للحصول على شبه موصل مرن باستخدام الحرارة المنخفضةInventors: M. Khayyat, N. Sosa, K. Seanger, S. Bedel, and D. Sadana.
تم تسجيل براءة الاختراع في الولايات المتحدة الأمريكية من قبل شركة اي بي ام (الشريك التقني لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم و التقنية، كما يجري تسجيلها في المملكة العربية السعودية كون المخترع الأول من السعودية، إضافة إلى أنه قد تم دعم العمل من قبل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم و التقنية.
الاختراع الرابع:
Temperature-Controlled Depth of Spalling”Inventors: M. Khayyat, N. Sosa, K. Fogel, S. Bedel, D. Sadana.
يرتبط هذا الاختراع بالمواد الشبه موصلة لتصنيع الأدوات الالكترونية، وهو عبارة عن طريقة للتحكم في عمل شرائح رقيقة مرنه من المادة و بدون أي تأثير ميكانيكي و ذلك عند درجات حرارة منخفضة. الاختراع الحالي يصف طريقة (1) لتقديم تحكم إضافي لعملية نزع طبقات من المادة، وهي تطوير لعمل شق و امتداده خلال المادة. (2) زيادة المدى للعمق المختار للقشرة المنزوعة من سطح المادة. الطريقة المقدمة في هذا الاختراع توفر آلية لنزع طبقة من سطح المادة بشكل طبيعي (بدون عمل شق في المادة) و التي تحدث عند درجات حرارة منخفضة.
وتبرز فائدة هذا الاختراع في تقديم أجهزة الكترونية خفيفة الوزن، إضافة إلى أنه سيكون بالإمكان تثبيت الأدوات الالكترونية المرنة في أي مكان؛ مثلاً سيكون بالإمكان تصنيع خلايا شمسية من الشرائح الرقيقة المرنة وتثبيتها على الملابس وأي سطح آخر يحمله الفرد خلال تحركه الأمر الذي يوفر الطاقة في أي مكان وقت احتياجها في أحوال السلم والحرب.
الكنز المختبئ: الدكتورة مها خياط أنموذجاً!
هذه الاختراعات وفجائية حدوثها هي أكبر دليل على أن جميع المعارف التي نكتسبها تظل مخبأة في عقولنا، ككنز ثمين لم يكتشف، أو كجهاز لم نتعلم كيفية استخدامه بشكل أمثل، جميع المعارف التي نكتسبها تظل مخبأة في عقولنا، ككنز ثمين لم يكتشف، أو كجهاز لم نتعلم كيفية استخدامه بشكل أمثل!وفور ما تدعونا الحاجة إلى استخدامها لظرف معين، فإننا نصل إليها بأبسط الطرق الممكنة!
ما حدث مع الدكتورة مها خياط يعد نموذج حي لهذه النظرية حيث أن جميع اختراعاتها أتتها فجأة وببساطة جداً، ولكن ذلك بعد أن أعدّت سلسلة من الأبحاث المتخصصة في مجال أشباه الموصلات والاختبارات غير المتلفة للمواد ودراسة أفلام السيلكون الغير بلورية، وأسلاك السيلكون النانوية والخلايا الشمسية.
العالمة الدكتورة مها خياط.. هيَ أنموذج حي للمرأة العاملة الناجحة.. للمؤمنة الواثقة بالله.. للشخص الذي يحمل هم وطن وحضارة.. للعالمة والمخترعة والطموحة! ... من قصتها نتعلم أن الأمل والإيمان والعزيمة والطموح قادرة على أن تحول العقبات إلى منصات للقفز في سماء النجاح والتميز..